فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} أي ولئن نصر اليهود المنافقين {لَيُوَلُّنَّ الأدبار}.
وقيل: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} أي علم الله منهم أنهم لا يخرجون إن أخرجوا.
{وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} أي علم الله منهم ذلك.
ثم قال: {لَيُوَلُّنَّ الأدبار} فأخبر عما قد أخبر أنه لا يكون كيف كان يكون لو كان؟ وهو كقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقيل: معنى {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} أي ولئن شئنا أن ينصروهم زيَّنا ذلك لهم.
{لَيُوَلُّنَّ الأدبار}.
قوله تعالى: {لأَنتُمْ} يا معشر المسلمين {أَشَدُّ رَهْبَةً} أي خوفًا وخشية {فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله} يعني صدور بني النَّضير.
وقيل: في صدور المنافقين.
ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين؛ أي يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ذلك الخوف.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.
قوله تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا} يعني اليهود {إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} أي بالحيطان والدُّور؛ يظنون أنها تمنعهم منكم.
{أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} أي من خلف حيطان يستترون بها لجُبْنِهم وَرَهْبَتِهم.
وقراءة العامة: {جُدُرٍ} على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم؛ لأنها نظير قوله تعالى: {فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} وذلك جمع.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن مُحَيْصِن وأبو عمرو {جِدَارٍ} على التوحيد؛ لأن التوحيد يؤدى عن الجمع.
وروي عن بعض المكّيين {جَدْر} (بفتح الجيم وإسكان الدال)؛ وهي لغة في الجدار.
ويجوز أن يكون معناه من وراء نخيلهم وشجرهم؛ يقال: أجْدَر النخل إذا طلعت رؤوسه في أوّل الربيع.
والجِدْر: نبتٌ واحدته جِدْرة.
وقرئ: {جُدْر} (بضم الجيم وإسكان الدال) جمع الجدار.
ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف كِتاب، وفي الجمع كألف ظِراف.
ومثله ناقة هِجَانٌ ونُوقٌ هجان؛ لأنك تقول في التثنية: هجانان؛ فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى؛ قاله ابن جِنيّ.
قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعني عداوة بعضهم لبعض.
وقال مجاهد: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي بالكلام والوعيد لنفعلن كذا.
وقال السدّي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد.
وقيل: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي إذا لم يلقَوْا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، ولكن إذا لَقُوا العدوّ انهزموا.
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شتى} يعني اليهود والمنافقين؛ قاله مجاهد.
وعنه أيضًا يعني المنافقين.
الثورِيّ: هم المشركون وأهل الكتاب.
وقال قتادة: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} أي مجتمعين على أمر ورأي.
{وَقُلُوبُهُمْ شتى} متفرّقة.
فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم؛ وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق.
وعن مجاهد أيضًا: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود؛ وهذا ليقوّي أنفس المؤمنين عليهم.
وقال الشاعر:
إلى الله أشكو نِيَّةً شَقّت العَصَا ** هي اليوم شَتَّى وهي أمس جُمَّعُ

وفي قراءة ابن مسعود {وقلوبهم أشَتّ} يعني أشدّ تشتيتًا؛ أي أشدّ اختلافًا.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي ذلك التشتيت والكفر بأنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا}
حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم.
والخطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، والآية كما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس نزلت في رهط من بني عوف منهم عبد الله بن أبي سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى: {يَقولونَ} إلخ.
وقال السدي: أسلم ناس من بني قريظة والنضير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى، والمعول عليه الأول، وقوله سبحانه: {يَقولونَ} استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو لاستحضار صورته، واللام في قوله عز وجل: {لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} للتبليغ؛ والمراد بإخوتهم الأخوة في الدين واعتقاد الكفرة أو الصداقة، وكثر جمع الأخ مرادًا به ما ذكر على إخوان، ومرادًا به الأخوة في النسب على إخوة، وقل خلاف ذلك، واللام في قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} موطئة للقسم؛ وقوله سبحانه: {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من دياركم قسرًا لنخرجن من ديارنا معكم ا لبتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} في شأنكم {أَحَدًا} يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه {أَبَدًا} وإن طال الزمان، وقيل: لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم، قال في (الإرشاد): وليس بذاك لأن تقدير القتال مترقب بعد، ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى: {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم، ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم، وأما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدّعوا أن خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين، ونوقش في ذلك، وجواب {إن} محذوف، و{لَنَنصُرَنَّكُمْ} جواب قسم محذوف قبل {إن} الشرطية، وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان، وقوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} وكان الأمر كذلك، والإخبار عن خلفهم في الميعاد قيل: من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز، وهذا مبني على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير، وكلام أهل الحديث. والسير على ما قيل: يدل على خلافه.
وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: {يَقولونَ لَئِن أُخْرِجْتُمْ} [الحشر: 11] إلخ من باب الإخبار بالغيب بناءًا على ما روي أن عبد الله بن أبيّ دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما دسه {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} على سبيل الفرض والتقدير {لَيُوَلُّنَّ} أي المنافقون {الادبار} فرارًا {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} بعد ذلك أي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نقاقهم لظهور كفرهم، أو {لَيُوَلُّنَّ} أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين، وقيل: الضمير المرفوع في {نَّصَرُوهُمْ} لليهود، والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء، وكأنه دعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاة بين {لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} على الوجه السابق، وقد أشرنا إلى دفع ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله.
{لأنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} أي أشدّ مرهوبية على أن {رَهْبَةً} مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنون مرهوب منهم لا راهبون {في صُدُورِهِمْ مّنَ الله} أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عز وجل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عز وجل، ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى ولشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك، قيل: إن {في صُدُورِهِمْ} على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني {ذلك} أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى: {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} شيئًا حتى يعلموا عظمة الله عز وجل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى، والمراد بهؤلاء اليهود، وقيل: المنافقون؛ وقيل: الفريقان.
{لاَ يقاتلونكم} أي اليهود والمنافقون، وقيل: اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم {جَمِيعًا} أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن {إِلاَّ في قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} بالدروب والخنادق ونحوها {أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم ومزيد رهبتهم منكم.
وقرأ أبو رجاء، والحسن، وابن وثاب {جُدُرٍ} بإسكان الدال تخفيفًا، ورويت عن ابن كثير، وعاصم، والأعمش، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من المكيين {جدار} بكسر الجيم وألف بعد الدال وهي مفرد الجدر، والقصد فيه إلى الجنس، أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان.
وقرأ جمع من المكيين، وهارون عن ابن كثير {جُدُرٍ} بفتح الجيم وسكون الدال، قال صاحب اللوامح: وهو الجدار بلغة اليمن، وقال ابن عطية: معناه أصل بنيان كسور وغيره، ثم قال: ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المصافة {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} أي مجتمعين ذوي ألفة واتحاد {وَقُلُوبُهُمْ شتى} جمع شتيت أي متفرقة لا ألفة بينها يعني أن بينهم إحنًا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون عن قوس واحدة، وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.
وقرأ مبشر بن عبيد {شتى} بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق، وعبد الله {وقلوبهم أشت} أي أكثر أو أشد تفرقًا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} شيئًا حتى يعلموا طرق الألفة وأسباب الاتفاق، وقيل: {لاَ يَعْقِلُونَ} أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهم بحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقولونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
أعقب ذكر ما حلّ ببني النضير وما اتصل به من بيان أسبابه، ثم بياننِ مصارف فيْئهم وفَيْء ما يُفتح من القرى بعد ذلك، بذكر أحوال المنافقين مع بني النضير وتغريرهم بالوعود الكاذبة ليعلم المسلمون أن النفاق سجية في أولئك لا يتخلون عنه ولو في جانب قوم هم الذين يودُّون أن يظهروا على المسلمين.
والجملة استئناف ابتدائي والاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المنافقين فبني على نفي العلم بحالهم كناية عن التحريض على إيقاع هذا العلم كأنه يقول: تأمَّل الذين نافقوا في حال مقالتهم لإِخوانهم ولا تترك النظر في ذلك فإنه حال عجيب، وقد تقدم تفصيل معنى: {ألم تر} إلى كذا عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} في سورة [البقرة: 243].